
أستاذ الطب النفسي المصري الشهير الدكتور أحمد عكاشة (مولود عام 1935) أطل علينا ضيفا على شاشة فضائية (صدى البلد) مؤخرا، مع الإعلامي حمدي رزق في برنامجه “نظرة”، وأدلى بتصريحات غريبة، مثيرة للدهشة والاستفزاز. مما قاله الدكتور أحمد عكاشة، إنه وبدون تعميم فإن التدين لدى “المصريين” شكلي يغلب عليه الطقوس، وأنهم يحجّون ويعتمرون أكثر من غيرهم، وهذا ليس الإسلام.. وأن “زبيبة الصلاة” مرض جلدي لدى المصريين، وأنه لم يرها في غيرهم، وأن “المِفّلِس سعيد أكثر من الغني”.
زبيبة الصلاة والتدين الشكلي.. وظاهرة لا يمكن قياسها
عن مسألة “التدين الشكلي”.. لا أعرف لماذا اختص عكاشة بها المسلمين المصريين فقط؟ فمعلوم أنها ظاهرة موجودة لدى كثيرين في العالم كله من “كل الديانات” وليست حصرا على المسلمين، ولا المصريين فقط، ممن يحرصون على العبادات والطقوس، في حين أن “المعاملات” تحيط بها علامات استفهام لتصادمها مع معاني هذه الطقوس والمُراد منها دينيا.
هذه الظاهرة لا يمكن قياسها عمليا، لصعوبة الاطلاع على نفوس الناس، وما تضمره من إيمان أو عدمه، وكثيرون يبررون هذا المسلك بالمَثل القائل “هذه نقرة وتلك نقرة”، بمعني أن المعاملات منفصلة عن “العبادات”، ولا تنال من أجر الأخيرة، ولا سلامتها.
التدين الشكلي، ربما يصيب أصحابه بالتشوه النفسي، نتيجة الازدواجية، بالتنافر بين الشكل والجوهر، وتناقض الظاهر مع الباطن، والشعور بالذنب الذي يتم تعويضه وعلاجه، بهذا الحرص “الروتيني” على ممارسة طقوس العبادة علنا، وإظهارها لـ”الناس”، سعيا لكسب رضاهم وإعجابهم. أما أن “زبيبة الصلاة” هي مرض جلدي، فمن الصعب التسليم بهذا، فـ”عكاشة” لم يستند في كلامه إلى بحث علمي حول سبب ظهور هذه الزبيبة، المنسوبة إلى أثر السجود، ومبلغ علمي أن بحثا مثل هذا، لم يُجرَ.
الفقراء والمفلسون.. والسعادة والقلق والاكتئاب
نأتي إلى قول “الدكتور عكاشة” بأن “المُفلِس سعيد أكثر من الغني”، قاصدا أن الفقراء أكثر سعادة من الأغنياء أو الأثرياء.. كأنما يريد القول إن “الفقر” يضمن السعادة ويُحصّن المرء من الأمراض النفسية. هنا، نتوقف لمناقشة هذا العبث الذي أسميه بلا تردد “اشتغاله” لا تليق بعالم للطب النفسي بوزن الدكتور عكاشة، لمخالفته التامة للمنطق ومبادئ “الصحة النفسية” التي يُعَد الدكتور عكاشة من أعلامها المميَّزين.. ذلك أن “المفلس” في قواميس اللغة، هو الشخص الذي أصابه الفقر بعد أن كان ذا مال، وصار مُكبَّلا بالديون للغير.. أما الفقير فهو المحتاج والمُعوز، الذي لا يملك أقل القوت. في الحالين الإفلاس أو الفقر، فإن أكثرية الناس إن لم يكن أغلبهم، يصابون بـ”القلق”، وهو حالة نفسية غالبا ما تكون نتاجا للخوف والتوجس شرا مما هو قادم، مع شعور بقلة الحيلة وانكسار النفس والعجز عن تلبية الاحتياجات الحياتية والمعيشية لأطفالهم وأسرهم، من مأكل وملبس وشراب، وتعليم ورعاية صحية. و”القلق”، بحسب علماء النفس، مرض الإنسان المقهور، الذي يعاني صراعا بين رغبات ومتطلبات يريدها، ولا يملك تحقيقها، بينما تتوق نفسه إلى فعل أشياء لا يرتضيها ضميره، ولا خُلقه، وقد يجلب القلق -أحيانا- للفرد مرض “الاكتئاب” النفسي، وهو مرتبط أيضا، بقسوة الحياة وصعوباتها، ومن أعراضه: الحزن، وانعدام الأمل، وافتقاد الرغبة في العمل والحياة ذاتها.
السرقة والاحتيال والعلاقات الزوجية.. وخراب الديار
إذا كان قليل من الفقراء أو المُفلسين الكبار عُمرا، يمكنهم الصمود في مواجهة هذه المصاعب، لامتلاكهم قدرا من الرضا، اعتصاما بالأمل في الغد، والإيمان بأن فرج الله قريب، فإن الغالبية منهم ليست كذلك، فمنهم من تختل وظائف الأعضاء في جسده، دون أن يكون مصابا بمرض عضوي، وغيرهم تتسلل المتاعب الصحية إلى جسده، نتيجة للانفعالات النفسية والغضب الشديد، على شاكلة الضغط والسكر. كما تؤدي هذه الحالة من الفقر والعوز، إلى تدهور علاقات الفرد مع الآخرين في محيطه، وتضرب العلاقات الزوجية، بما قد ينتهي بالطلاق وخراب الديار كما يقولون، على خلفية نقص لوازم المنزل والأبناء، للإعاشة والتعليم والعلاج، وقد يلجأ إلى الجريمة، بالسرقة أو النصب والاحتيال، أو غيرها، لاستكمال ما يعانيه من نقص واحتياج.
تَشرُّد الأبناء والنقمة.. واعتياد العنف
هذا كله، مع إساءة التعامل مع “الأبناء”، والعجز عن إشباع رغباتهم واحتياجاتهم، يصيبهم وهم “رجال المستقبل”، بالعُقد والأمراض النفسية.. ناهيك عن التشرد في حالات الطلاق، ويصبحون ناقمين على المجتمع من حولهم، لشعورهم بالحرمان المادي والمعنوي، سواء بالطلاق بين الأب والأم، أو بدونه. مع ازدياد وعي الأبناء بما هم فيه من فقر وعوز، وإدراكهم الفوارق مع غيرهم ممن هم أحسن حالا، نتيجة الاحتكاك بالغير، يتضخم لديهم الشعور بالنقص والدونية، بما قد يدفعهم إلى أن يكونوا فريسة سهلة للتوظيف في السرقة والنشل، وما يتبعه من اعتياد للعنف اللفظي والمادي. إذا كان الحال هكذا، في ما يجلبه الفقر والإفلاس لأكثرية الناس، من قلق واكتئاب ومشكلات اجتماعية لا حصر لها، وخراب للبيوت العامرة وتشرُّد للأطفال، وتراجع أخلاقي وقيمي.. فإن مقولة “عكاشة” بشأن سعادة المفلس، هي مجرد “اشتغاله”، لا علاقة لها بالطب النفسي من قريب ولا من بعيد. هذا لا يعني أن كل الأثرياء سعداء، لكنهم والفقراء ليسوا سواء.
الدكتور أحمد عكاشة (87 سنة) صاحب مدرسة علمية في الطب النفسي، وإسهامات علمية غزيرة، فوفقا لموقع “جامعة عين شمس” الإلكتروني، تدرّج بها إلى درجة الأستاذية في الطب النفسي، وأشرف على أكثر من 80 رسالة دكتوراه، و147 رسالة ماجستير، و243 بحثا علميا، وله 14 مؤلفا عالميا بالإنجليزية، وحاصل على جوائز تقديرية، وغير هذا كثير، مما يصعب حصره.
أخشى أن الدكتور عكاشة بعد هذا التاريخ العلمي العريق، يسلك نهج فقهاء السلطان الذين يزينون الفقر للناس، وأن الفقراء يدخلون الجنة، لمجرد الفقر.
