
في الثامن من جوان من كل عام، يحتفل الوطن بيوم ليس كباقي الأيام؛ يوم مخصص لأولئك الذين لا يحملون سلاحًا ولا يعتلون منابر السياسة، بل يحملون ريشة، أو قيثارة، أو كاميرا، أو صوتًا حنونًا يهزّ الأرواح ويوقظ الوعي ، أو قضية بين خشبات المسارح وبين المداد ، إنه “اليوم الوطني للفنان”، اليوم الذي نكرم فيه أصحاب الرسالة الجمالية والوجدانية، صُنّاع الذاكرة والمشاعر، بناة الوعي الجمعي من خلال الفن، أداة الحضارة الأولى وسلاح الشعوب الأعمق أثرًا.
الفن مرآة الأمة، والفنان ضميرها
الفنان الحق ليس مجرد صانع للمتعة، بل هو ضمير الأمة، وحامل هموم الناس، وناقل آمالهم وآلامهم ، هو من يرسم الحقيقة حين تُزيف، ويغني للحرية حين تُقيد، ويبكي في قصيدة ما لا يستطيع الناس البوح به ، في زمن تُقصّ فيه الألسن وتُشوّه الحقائق، يخرج الفنان كجندي ناعم الكلمات، يواجه الظلام بالنور، والجفاف بالجمال.
إن الرسالة الفنية الحقيقية لا تولد في رغد الشهرة ولا في أحضان الرياء، بل تتشكل في الأتون، في المواجع، في تفاصيل العيش اليومي، في الشوارع والأسواق والمدارس والبيوت ، الفنان الحقيقي هو الذي يستمد صوته من صوت الناس، وليس من تصفيق الصالونات ولا من بهرجة وسائل الإعلام.
الفرق بين الفنان الحقيقي والمزيف
ليس كل من اعتلى خشبة المسرح فنانًا، ولا كل من ظهر على الشاشة مبدعًا ، هناك من يعتبر الفن وسيلة للتسلّق الاجتماعي، أو مهنة ربحية لا أكثر، فيلوث قدسية الإبداع بالأنانية والسطحية ، هؤلاء “فنانون مزيفون” يعيشون على فتات الشهرة، ويبيعون أنفسهم في مزادات الذوق المنحط.
بينما الفنان الأصيل، حتى وإن لم يعرفه الناس بالاسم، يبقى صوته خالداً في القلوب ، لا يلهث خلف الإعجاب اللحظي، بل يسعى لزرع أثر يدوم، حتى وإن طال الحصاد ، كما لا يستجدي التصفيق، بل يصنعه من خلال الإخلاص لقضيته ولشعبه ولذاته.
الفنان والمجتمع: علاقة تكامل لا تبعية
في المجتمعات الحية، يُمنح الفنان مكانته كقائد للوعي وملهم للتغيير ، لا يُنظر إليه ككائن ترفيهي، بل كأحد أعمدة النهضة.
فهو قادر على ترميم النفوس الجريحة، وإعادة تشكيل الذوق العام، وإحياء الروح الإنسانية وسط ضجيج المادة.
ولذلك، فإن اليوم الوطني للفنان يجب ألا يكون مجرد مناسبة احتفالية، بل فرصة لمراجعة علاقتنا كمجتمع بالفن وبالفنانين ، هل نكرمهم حقًا؟ هل نمنحهم بيئة إبداع حرة وآمنة؟ هل نوفر للفنان الملتزم فضاءً يعبّر فيه عن رؤاه دون خوف من التهميش أو القمع؟
في عالم متغير، حيث تتبدل القيم بسرعة، وتُغتال المبادئ على مذبح الربح والتسويق، يبقى الفن الأصيل آخر حصون الإنسان ، الفنان الحقيقي اليوم ليس فقط مسؤولًا عن الجمال، بل عن الحقيقة ، مسؤولا عن أن يقول “لا” حين يقول الجميع “نعم” من أجل المصلحة، وأن يقف، حتى وحيدًا، في وجه التزييف الثقافي.
في اليوم الوطني للفنان، فلنقف جميعًا احترامًا لتلك الأرواح التي اختارت أن تكون صوت الجمال وسط الضجيج، وضمير الوطن في زمن الصمت.
في إحتفالية يوم الفنان لا نُطفئ شمعة الاحتفال، بل نُشعل في قلوبنا وهج الإيمان برسالة الفن الخالدة ، فالفن ليس ترفًا، بل ضرورة، والفنان ليس زينة المجتمعات، بل نبضها الحي وضميرها المستيقظ ، في كل ريشة صادقة، نكتب مستقبلًا أكثر إنسانية، وفي كل نغمة حرة، نحرّر وطنًا من قيود الجهل والتزييف.
يا فناني الوطن… أنتم لا تملكون مجرد أدوات إبداع، بل مفاتيحا للوعي والكرامة ، اجعلوا من كل عمل فني جسراً بين الإنسان وذاته، بين الماضي العريق والمستقبل الذي نحلم به ، وكونوا كما كنتم دائمًا: نبض الشعب حين يصمت، وصرخة الحق حين يخبو الصوت.
فلنصنع من كل 8 جوان موعدًا متجددًا مع الصدق والجمال… مع الفن الذي ينهض بالأمم لا الذي يزين جدران النسيان. ، وكل عام وفنكم مشعل، وأرواحكم مرآة لوطن أجمل ، وتكتبون للتاريخ سطورًا لا تُمحى.
بقلم : عباسية مدوني
