لا تشعر وأنت في بولندا أن هناك حربا على حدودها، الحرب الأوكرانية الروسية. ولا تشعر أن اللاجئين الأوكرانيين -الذين اقتربت نسبتهم من 3 ملايين لاجئ في بولندا- مشردون تائهون في شوارعها. الحياة طبيعية، المتاجر ممتلئة بالبضائع، المواصلات العامة في العاصمة وارسو غير مزدحمة ونظيفة ومريحة، كل شيء يبدو طبيعيا، فقط يبدأ الشعور بالقلق عند الحديث عن الحرب مع الناس، ينتابهم الخوف من المستقبل، ولا يستطيعون التنبؤ بالقادم!
الثلاجة والتلفزيون بالدور
كانت بولندا حتى عام 1989، قبل سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، دولة شيوعية تعاني الكثير من التخلف الاقتصادي، متاجرها متواضعة والناس يعانون الفقر، كان عليهم الانتظار في دور لسنوات حتى يحصلوا على ثلاجة أو تلفزيون، فالبضائع شحيحة وأرفف المتاجر فارغة.
لكنها الآن أصبحت أكبر اقتصاد في دول أوربا الشرقية ودول الوسط، وتغيّر متوسط دخل الفرد من 40 يورو في الشهر سنة 1989 إلى 1800 يورو اليوم، ولمّا سألت: لماذا لا يسافر البولنديون للعمل في الدول المجاورة الغنية مثل ألمانيا وسويسرا؟ جاءتني الإجابة: إن السفر لم يعد مرغوبا للذين يحصلون علي مرتبات تقترب من 1500 يورو، أما دون ذلك فإنهم قد يلجؤون إلى البحث عن عمل في الخارج، وفي عهد الشيوعية البائد كان البولنديون يهربون إلى الخارج بأعداد كبيرة إلى الغرب حتى أن نسبتهم في شيكاغو وحدها في الولايات المتحدة بلغت نحو مليون بولندي!
الاقتصاد الأكثر نموا بعد الصين
إن الاقتصاد البولندي المتفوق، الذي جاء تصنيفه -وفق الأمم المتحدة- الثاني الأكثر نموا بعد الصين من عام 1999 إلى 2019، نجده قد اعتمد بشكل كبير على إمكانياته الجغرافية، والتعليمية والمهارات البشرية، فبولندا لديها منفذ إلى البحر، وحدودها مشتركة مع 9 دول، مما جعلها تستفيد من قطاع الخدمات والنقل بنسبة وصلت إلى 63.5%، ومن الإنتاج الصناعي إلى 33%، أما الزراعة والإنتاج الحيواني فلم تزد النسبة على 3.5%، وبهذا احتلت بولندا المرتبة التاسعة في الاتحاد الأوربي والخامسة والعشرين في العالم من حيث نصيب الفرد من الإنتاج.
من حيث مؤشر التنمية البشرية، تصنف الأمم المتحدة بولندا على أنها متقدمة للغاية، فالولايات المتحدة تعطي أهمية قصوى للاستثمارات في هذا البلد، وقيمة استثماراتها بلغت 26 مليار دولار، أما إجمالي الشركات المملوكة لمستثمرين أمريكيين فبلغت 1576 شركة حتى الآن، منها 50% تتعلق بالصناعة، بينما تعتزم أيضا شركة (إنتل) للرقائق الإلكترونية استثمار 4.6 مليارات دولار في غضون السنوات القليلة القادمة.
رائدة في صناعة أجزاء السيارات
في 6 مايو/أيار 2004، دخلت بولندا السوق الأوربية المشتركة، وأصبحت عضوا في الاتحاد الأوربي، وبدأت طفرة اقتصادية جديدة نتيجتها الآن -على سبيل المثال- تجلت في صناعة السيارات، هنا 800 شركة لا تصنع السيارة كوحدة متكاملة، ولكنها متخصصة في صناعة أجزاء السيارة كعجلة القيادة وناقل الحركة وغيرها. شركة فورد الأمريكية أيضا تستثمر 4.5 مليارات دولار في بولندا لإنتاج خط لسيارتها هناك. إن قيمة ما صدرته بولندا في قطاع السيارات عام 1990 بلغ 30 مليار دولار، وفي عام 2022 بلغ 6800 مليار دولار، هذا فضلا عن أن بولندا هي ثاني أكبر منتج لبطاريات السيارات في العالم.
إذا كانت بولندا مجالا مفتوحا للاستثمار، فإن ألمانيا الجارة العملاقة تعاني البيروقراطية وفرض الضرائب العالية على الشركات، مما جعل 26% من الشركات المتوسطة الحجم في ألمانيا تدرس التخلي عن أنشطتها التجارية. وفي استطلاع للرأي بين أرباب العمل، يري واحد من كل خمسة الانتقال إلى الخارج بسبب الضرائب والرسوم المُبالَغ فيها.
الاستثمار العقاري في وارسو
كل هذا يصب في صالح بولندا التي بدأت تشهد استثمارات في مجال العقارات خاصة الإسكان الفاخر الذي يجذب الزبائن الأثرياء، وثمة طلب واضح على شراء المنازل الفاخرة في العاصمة وارسو، وقبل 10 سنوات كان المتر المربع الواحد يساوي ألف يورو، وأصبح الآن عشرة آلاف يورو أو أكثر حسب المكان، ويتوافق هذا مع ارتفاع عدد الأثرياء، ففي عام 2019 قبل جائحة كورونا، ارتفعت نسبة الأثرياء “المليونيرات” من 50 ألفا إلى 89 ألفا.
في وارسو يفتخرون ببناء الأبراج السكنية، وفي منطقة الوسط تُذكّرك بمانهاتن، فمجموعة الأبراج المرتفعة أصبحت عنوانا للمدينة، لكنّ برجا آخر سيُفتتح العام المقبل هو “زولتا 44″، وهو البرج الأشهر والأعلى في بولندا الآن، إذ يبلغ ارتفاعه 196 مترا، وهو قريب من أضخم مراكز التسوق في بولندا “زلوتا تراسي” الواقع في قلب المركز المالي للبلاد، إلى جانب العديد من المكاتب الرئيسية لعدد من البنوك، ويُشكل هذا البرج نمطا للعيش الفاخر في بولندا، لأنه يلبي احتياجات الأثرياء من حيث الفخامة والتميز.
الاستثمار في السياحة العلاجية
في هذا الصدد، يعتقد 56% من المستثمرين أن بولندا وجهة استثمارية مهمة للغاية، وهي تسير في اتجاه صحيح شجع حتى بعض الأثرياء العرب على الاستثمار العقاري في بعض مدنها.
السياحة تمثل 4% من الدخل القومي لبولندا، وهناك اتجاه لتنمية السياحة العلاجية، ومنافسة تركيا وألمانيا في مجال السياحة التجميلية، لا سيما جراحات الفم وزراعة الأسنان باهظة التكلفة، كما في ألمانيا مثلا. لا شك أن هذا سيعزز القطاع السياحي في هذا البلد، خاصة أن بولندا بها الكثير من مقومات السياحة التي تتفق مع السياحة العلاجية، مثل سياحة التسوق و”الموضة”، بل أيضا شراء الأثاث، فهي ثالثة كبرى دول العالم في إنتاج الأثاث، والأولى في إنتاج أدوات الكهرباء المنزلية.