أحمد زبانة… شهيد المقصلة وصوت الخلود: في الذكرى الـ69 لاستشهاده، من دمائه انبثقت الجزائر المستقل
في صبيحة 19 جوان من سنة 1956، سكنت السماء لحظة، واهتزت الأرض تحت أقدام المستعمر الفرنسي ، لم تكن مجرد عملية إعدام، بل كانت إعلان ميلاد جديد لأمة لم تمت ، تسع وستون سنة تمرّ على استشهاد البطل أحمد زبانة، أول من صعد مقصلة المستدمر الفرنسي في معركة التحرير، لتبقى روحه مشتعلة في ذاكرة الجزائريين، لا كجسد انتهى، بل كرسالة بدأت.
لقد كان أحمد زبانة أكثر من شهيد، كان موقفًا خالدًا من الصمود، رمزًا للتحدي، ووصية مفتوحة كتبها بدمه للأجيال القادمة ، وُلد في حيّ شعبي بوهران سنة 1926، وفيه تشكلت أولى ملامح وعيه الوطني ، وقد انضم مبكرًا إلى الكشافة الإسلامية، وهناك بدأ نبض الوطن يخفق في أعماقه، فكان من أوائل الذين فهموا أن الاستقلال لا يُستجدى، بل يُنتزع انتزاعًا.
عندما انطلقت الثورة التحريرية في نوفمبر 1954، لم يكن أحمد زبانة بحاجة إلى دعوة؛ كان هناك، في قلب الفعل الثوري، يقود العمليات، يسند رفاقه، ويزرع الأمل في النفوس التي أنهكها الظلم ، في إحدى المعارك الجريئة بمنطقة زهانة، أُصيب وأُسر، ومن هناك بدأت فصول بطولة جديدة لا تقل عن سابقتها ، لم تنكسر إرادته في زنزانة الموت، بل ازدادت صلابة، حتى وهو يواجه آلة الإعدام الباردة.
ولأن فرنسا الاستعمارية كانت تدرك خطر الرموز أكثر من خطر الرصاص، اختارت أن تُعدم زبانة بالمقصلة، وسعت لتقديمه كدرس لكل من تسوّل له نفسه الوقوف في وجهها. لكنها – كما أخطأت مرارًا في فهم الشعوب – لم تفهم أن الدماء التي تروي الأرض لا تـجفّ، بل تُلهب الحناجر وتوقظ الأحرار ، وهكذا، بدل أن تُرعب الثورة، أشعلت المقصلة جذوتها.
كان زبانة يعلم أنه ذاهب إلى الموت، لكنه كان يرى في ذلك حياةً للجزائر ، قالها ببساطة الموقن: “لو كان لي ألف روح، لفديت بها وطني ، إن مشهد مقصلته لم يكن نهاية، بل لحظة تحوّل – صارت كلماته أنشودة تُتلى في مدارس الوطن، وصورته تُرفع في الساحات، وسيرته تُلهم المقاومين ضد كل استعمار، كل ظلم، وكل استبداد.
اليوم، وبعد 69 سنة، تظل ذكرى أحمد زبانة أكثر من مجرد تاريخ ، إنها دعوة لمساءلة الذات الوطنية: ماذا فعلنا بتلك التضحيات؟ وهل نحمل في عروقنا شيئًا من عزيمته؟ لقد قدم زبانة وزملاؤه حياتهم على مذبح الحرية، ليمنحونا وطنا مستقلاً، لا ليستمر الصمت، بل لتتجدد معاني المسؤولية، والوحدة، والبذل.
في زمن تُخلخل فيه رياح الفُرقة واللامبالاة أركان المجتمعات، تعود ذكرى زبانة لتقول: لا يُبنى وطنٌ بدون تضحية، ولا يُصان استقلالٌ بدون وعي ، فالتعبئة الوطنية، إن لم تكن امتدادًا لنضال من سبقونا، تُصبح شعارًا أجوفا لا طائل من ورائه. علينا أن نعيد قراءة دماء الشهداء، لا كماضٍ نحكيه، بل كدستور روحي يُنير طريق المستقبل.
زبانة لم يكن الأول في الشهادة، ولن يكون الأخير في الإلهام ، لقد سلّمنا الشعلة، وليس لنا أن نُسقطها. فبين أيدينا الآن الجزائر التي حلم بها: حرّة، موحدة، ترفض الظلم، وتقف بكرامة بين الأمم ، فلنكن في مستوى تلك الدماء، وفي مستوى التاريخ.
” زبانة ” الذي كتب في رسالته لأمّه :
“فإن أصابني أي شيء فلا تظنوا أن كل شيء انتهى فإنما الموت في سبيل الله حياة أبدية، والموت في سبيل الوطن واجب، وقد أديتم واجبكم حيث ضحيتم بأعز مخلوق لكم، فلا تبكوني بل افتخروا بي… ”
هو الذي اقتيد إلى المقصلة ثابتا ، شامخا شموخ الجزائر وصرخ صرخته الخالدة : ” أموت وتحيا الجزائر ”
بقلم : عباسية مدوني